سورة الإسراء - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}؟
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة أشارت إلى بعض ما يفتن به الناس من آيات اللّه.. كالإسراء، وشجرة الزّقوم.. والأولى، نعمة وخير، والثانية، شرّ وبلاء. فناسب أن يجىء بعد شجرة الزّقوم، التي فتن بها المشركون، شيء يشبهها، هو مضلّة للمشركين، وفتنة للغاوين، وهو إبليس، لعنه اللّه.
وقد دعى إبليس من اللّه تعالى أن يسجد لآدم، فأبى واستكبر وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً؟} وقال في موضع آخر: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.
وقد كان خلق آدم من طين آية من آيات اللّه المادية، وكان على إبليس أن يؤمن بها.. ولكن هذه الآية كانت سببا في كفره باللّه، وطرده من رحمته.
قوله تعالى: {قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}.
أرأيتك: أي أرأيت يا اللّه.. والكاف حرف خطاب للمولى سبحانه وتعالى، يؤكد الضمير المتصل قبله، والمراد بالرؤية هنا، العلم.. أي أعلمت يا اللّه!.
أحتنكنّ: أي أفسدنّ، وأستولينّ.. احتنك الشيء: لاكه في حنكه وعلكه، كما تعلك الدابّة لجامها.
وهذا تحدّ من إبليس- لعنه اللّه- للّه سبحانه وتعالى، في آدم، وأنه أضعف شأنا من إبليس، وأنه إذ كان كذلك، فكيف يسجد القوىّ للضعيف؟.
هكذا فكر إبليس وقدّر.!
قوله تعالى: {قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً}.
اذهب: أمر مراد به الطرد من رحمة اللّه.
وفى قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ} إشارة إلى أن البلاء واقع على إبليس، ومن تبعه من أبناء آدم.. إذ كانوا في اتّباعهم له أنصارا له وأعوانا، على هذا التحدّى الذي تحدّى به اللّه في أبناء آدم.. وقد كان جديرا بهم أن يكونوا أعداء لهذا العدو للّه ولهم.
وفى هذا تسفيه لهؤلاء المشركين الذين اتبعوا آباءهم، كما اتبع أبناء إبليس، إبليس. فمتابعة الذرّية لآبائهم، مضلّة لهم، إذ كان عليهم أن ينظروا لأنفسهم، وأن يأخذوا الطريق الذي يؤدى إليه نظرهم.
وقوله تعالى: {جَزاءً مَوْفُوراً} أي جزاءا كاملا، لا ينقص منه شىء.
فلا يخفف عنهم العذاب، ولا يقصر مداه.
قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً}.
استفزز: أي: أخف، وأفزع، واستفزّ فلان فلانا: أي أخافه وأفزعه.
وأجلب: أي: أجمع أمرك، وادع كل ما تملك من قوة.. وأجلب القوم، جاءوا من كل صوب، ومنه الجلب، وهم التجار الواردون على السوق.
والخيل: المراد بها راكبوها.
والرّجل: جمع راجل، وهو من يمشى على رجليه إلى غايته، سواء في حرب أو غيره.
والأمر هنا، يراد به الاستخفاف بإبليس، وبكيده الذي يكيد به للناس.
والاستخفاف إنما هو بالإضافة إلى أبناء آدم.. فإبليس بما معه من كيد ومكر، هو مدحور مخذول أمام الإرادة الصادقة، والعزم الوثيق، فهو أضعف من الإنسان، الذي يعرف قدر إنسانيته، ويحترم وجوده كإنسان كرّمه اللّه، ورفع بين العالمين قدره.. واللّه سبحانه وتعالى يقول بعد هذا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا} [70: الإسراء]: ويقول عن الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً} [76: النساء].
فليعلن الشيطان الحرب على أبناء آدم، وليأت بكل ما معه من عدد وعدّة.. وليجلب بخيله ورجله، وليشاركهم في أموالهم وأولادهم، وذلك بما يفسد عليهم من أموال وبنين.. ثم إذا لم يجد في ذلك ما يمكنه منهم، فليأتهم متلطفا، متودّدا، بعد أنجاءهم مهددا، متوعدا، مفسدا.. وليمدّ لهم في حبل الأمانىّ، وليكثر لهم من الوعود المعسولة الكاذبة.. فذلك كلّه لن يبلّغه شيئا من أبناء آدم الذين جعلهم اللّه من أهل طاعته، وأرادهم لجنته، كما يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} فهؤلاء هم أبناء آدم، ليس لإبليس سلطان عليهم، إلا من كان من أهل الشّقوة والضلال.
فهؤلاء- بما سبق فيهم من قضاء اللّه- هم مستجيبون للشيطان موالون له.
إذ كانت أهواؤهم متفقة مع هواه، ووجهتهم قائمة على وجهته.. إنهم، وهو، من أهل الشقاء والبلاء.
وفى قوله تعالى: {وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً} تحذير من الشيطان، وأمانيه ومغرياته التي يمنّى بها الناس، ويغريهم بها، فما هى إلا ضلال في ضلال، وأباطيل لا تجىء إلا بالأباطيل! وتحذير الناس من الشيطان ومغرياته، وإن كان لا يردّ شيئا مما قضى به اللّه في عباده، فإنه تحذير من الشر، وترغيب في الخير.. وعلى التحذير والترغيب يعتدل ميزان الناس، حيث يجدون القانون الذي يحتكمون إليه.. وهنا يصحّ الابتلاء، ويقع الاختبار.. فمن كان من أهل السعادة، اهتدى بهدى اللّه، وعمل بأوامره، واجتنب نواهيه، ومن كان من أهل الشقاء، أخذ طريقه مع الشيطان، فضلّ بضلاله، وغوى بغوايته.. وكل ميسّر لما خلق له.
قوله تعالى {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا}.
فعباد اللّه، هم أولئك الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى، وهؤلاء لا سبيل للشيطان إليهم، إنهم في عصمة منه بهذا القضاء الأزلىّ من اللّه فيهم.. وهو قضاء خفىّ لا يعلمه أحد، ولا يدرى مخلوق إن كان من أهل السعادة أو أهل الشقاء.. ومن هنا كان السعى والعمل، والتسابق إلى الإحسان- من مطلوبات الناس، ومن مبتغياتهم.. لأن الإحسان هو الأمارة الدالة على الفوز والنجاة.
فمن كان من أهل السعادة، عمل عمل المحسنين، ومن كان من أهل الشقاء عمل عمل المسيئين.. وفى الحديث: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه القضاء فيعمل بعمل أهل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه القضاء فيعمل بعمل أهل الجنة!.
وهكذا نحن في الحياة.. طلاب العلم مثلا:
العاقلون المجدّون منهم، هم على طريق النجاح عند الامتحان، والمهملون الغافلون، هم على طريق الإخفاق.
وقد يجدّ للعامل المجدّ ما يصرفه عن العمل والجدّ، فيخفق، ويجدّ للكسول المهمل ما يدفعه إلى الجدّ والتحصيل، فينجح. وكل سائر إلى القدر المقدور له.. ولكن سنّة اللّه قائمة في الناس: أن لا ثمرة بغير عمل، ولا حصاد إلا بعد زرع!
وفى قوله تعالى: {وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا}.
في هذا ما يسأل عنه، وهو:
كيف يخاطب إبليس بهذا الخطاب الذي يشعر بالقرب: {كَفى بِرَبِّكَ}؟
والجواب على هذا،- واللّه أعلم- أن هذا الخطاب ليس لإبليس، وإنما هو التفات إلى الإنسان، الذي هو داخل في عموم قوله تعالى: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} وكأنهم بمشهد من هذا الخطاب.. ثم إنه بدلا من أن يجىء النظم بصيغة الجمع هكذا: وكفى بربكم جاء النظم القرآنى بصيغة المفرد {وَكَفى بِرَبِّكَ}.
وذلك لينظر كل إنسان إلى خاصة نفسه، وليعمل ما وسعه العمل على أن يتوقّى هذا الشيطان المترصد له، والمتربص به، وليكن مما يستعين به على ذلك أن يتوكل على اللّه، وأن يستعين به، وليجعل في يقينه أنه من عباد اللّه، الذين لا سلطان للشيطان عليهم.
ويجوز أن يكون الخطاب للشيطان، قهرا له: وإلزاما له بسلطان الربوبية، الذي خرج بكفره عن سلطانه.. وأنه مقهور مخذول، ليس له على عباد اللّه سلطان، وهو سبحانه وتعالى وكيلهم الذي يدفع عنهم كيده.


{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)}.
التفسير:
قوله تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً}.
بعد أن خوطب الإنسان من اللّه سبحانه وتعالى، بقوله: {وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} جاء الخطاب إلى النّاس جميعا، شارحا هذه الوكالة، وما يجىء منها إلى الإنسان من إمدادات الخير والإحسان من ربّ العالمين، فاللّه سبحانه، هو الذي سخّر للناس البحار والأنهار، تجرى فيها الفلك بأمره حاملة الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد، دون أن يطغى الماء على الفلك، أو يمسكها على ظهره بلا حراك.. كما يقول سبحانه: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ} [33: الشورى] وهو سبحانه بهذه الوكالة القائمة على الناس قادر على أن يدفع عنهم ما يكيد به الشيطان لهم، إذا هم آمنوا باللّه واتخذوه وكيلا.
قوله تعالى: {وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً} وفى الحال التي تتعرض فيها الفلك لريح عاصف، أو موج صاحب، لا تجدون أيها الناس من يكشف هذا البلاء، إلا اللّه.. {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} فليس لمعبوداتكم التي تعبدونها سبيل إليكم وأنتم في هذا الكرب.
إنهم قابعون هناك حيث تركتموهم في معابدكم، أحجارا جاثمة، أو جثثا هامدة.. ولكن سرعان ما تنسون أيها الناس فضل اللّه عليكم، ورحمته بكم: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} عنه، وأعطيتم وجوهكم لآلهتكم.
وهذا فوق أنه سفه وضلال، هو كفران وجحود.
قوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا}.
ولكن أين تذهبون؟ إذا أنتم أمنتم جانب البحر؟ أو تخرجون من ملك اللّه؟ ثم أتدفعون بأس اللّه عنكم إذا جاءكم؟ فهل تأمنون، وأنتم في البرّ أن يرسل اللّه عليكم ريحا عاصفة، محملة بالهلاك والدمار، فتغرقكم في الأرض، وتدفنكم في بطنها.. فإذا كنتم قد سلمتم من الغرق في البحر، فهل تعجز قدرة اللّه من أن تنالكم بالبلاء وأنتم على ظهر اليابسة؟ وهل إذا وقع بكم هذا البلاء، هل هناك من يتولى دفعه عنكم؟.
وفى قوله تعالى: {جانِبَ الْبَرِّ} إشارة إلى هذا الحمى وذلك الجناب الذي يجد فيه الإنسان طمأنينة وأمنا حين يضع قدمه على اليابسة، بعد أن يترك البحر ومخاطره.. فهذا الجانب لا يعصم من أمر اللّه، ولا يردّ بأسه.
قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً}.
وهل أمنتم، بعد أن نجاكم اللّه من الغرق وأنتم على ظهر السفين، ثم كفرتم باللّه، ولم تذكروا فضله عليكم ورحمته بكم- هل أمنتم أن يعيدكم إلى البحر مرة أخرى، مسوقين إليه بسلطان قدره وقدرته، ثم يرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم.. إنه انتقام من كفركم باللّه ومكركم بنعمه عليكم.. فهل إذا أغرقكم اللّه في تلك المرّة، هل يكون لكم على اللّه حجة؟ أليس هذا هو الجزاء العادل الذي أنتم أهل له بكفركم، وضلالكم؟
لقد أراكم اللّه سبحانه فضله ورحمته، فأنكرتم الفضل والرحمة.. وهذا بلاؤه ونقمته.. فهل تنكرون البلاء والنقمة؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}! (165: آل عمران) والتبيع: من يتبع غيره، والمراد به هنا من يطالب اللّه بما يحلّ بالمشركين من بلاء.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا}.
هو استعراض عام لنعم اللّه على الناس جميعا.. أبناء آدم.. فقد كرمهم اللّه سبحانه وتعالى بهذه الصورة التي خلقهم عليها، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، كما يقول سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [4: التين] وكما يقول جلّ شأنه: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ} [6- 8: الانفطار].
ومع هذا التكريم في الخلق، فقد سخر اللّه للناس ما في البرّ والبحر، وأفاض عليهم من الخيرات والنعم، وأقامهم على هذه الأرض، وجعلهم خلفاءه عليها.. وهذا كلّه من شأنه أن يدعو الإنسان إلى الولاء للّه، وإفراده سبحانه بالحمد والثناء!- وفى قوله تعالى: {وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا} ما يسأل عنه وهو: ما منزلة الإنسان بين المخلوقات؟ وما المخلوقات التي فضّل عليها؟
وما المخلوقات التي فضّلت عليه؟
صريح منطوق الآية يدل على أمرين:
أولهما: أن الإنسان فضّل على كثير من المخلوقات التي بثّها اللّه سبحانه وتعالى في هذا الوجود كلّه.
وثانيهما: أن هناك مخلوقات لا يفضلها الإنسان، وهى إما أن تكون مساوية له في الفضل، أو هى أفضل منه.
والذي لا شك فيه، هو أن الإنسان في أصل خلقته، أفضل المخلوقات التي تعيش معه على هذا الكوكب الأرضىّ، ولهذا جعله اللّه خليفته في هذه الأرض.. كما يقول سبحانه وتعالى: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ولكن هذه الخلقة المهيأة لأن تكون بمقام الخلافة للّه تعالى على الأرض، لا يتحقق لها هذا، حتّى تحقق هى ذاتيتها، وتخرج القوى الكامنة فيها، وتفجّر الطاقات المندسّة في كيانها.. كالنواة التي تضمّ في كيانها عناصر شجرة عظيمة، أو نخلة باسقة.. تظلّ هكذا شيئا ضئيلا ميتا، حتى تندسّ في صدر الثّرى، ثم تتفاعل معه، وتخرج خبأها بعد جهد وصراع.
أما الإنسان الذي لا يعمل على الانتفاع بما أودع اللّه فيه من قوى، فسيظل كتلة باردة من لحم ودم، لا يرتفع كثيرا عن مستوى أدنى الحيوانات وأحطها منزلة.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [4- 6: التين].
هذا هو مقام الإنسان في العالم الأرضى.. إنه سيد المخلوقات كلها في هذا العالم، مادام محتفظا بإنسانيته، عاملا على الارتقاء بوجوده.. أما المخلوقات التي في غير هذا العالم الأرضى، فلا شأن للإنسان بها، كما أنها لا شأن لها بالإنسان، ومن ثمّ فالمفاضلة بينه وبينها شيء غير وارد، وغير منظور إليه.. إذ لا تعامل بين الإنسان وبين تلك المخلوقات!


{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}.
الإمام: المقدّم من كل شىء.. وإمام القوم: رئيسهم، وصاحب الكلمة فيهم.
والفتيل: النّتوء البارز في شقّ النواة، ويضرب به المثل في الشيء الحقير.
والآية تنتقل بهؤلاء الناس، الذين كرمهم اللّه، وفضلهم على كثير من خلقه، وحملهم في البر والبحر، ورزقهم من الطيبات- تنتقل بهم من الدنيا، التي يتقلّبون فيها، ويسرحون ويمرحون، فإذاهم بين يدى اللّه في مقام الحساب والجزاء يوم القيامة.. وإذا كل جماعة مع إمامها الذي كانت تتبعه، وتنقاد له.
فأتباع الأنبياء مع أنبيائهم، وأتباع الضلال مع أئمتهم.. وهكذا كل طائفة، وكل جماعة، وكل أمة، مع إمامها، وقائدها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ} [69: الزمر].. فالنبيون والشهداء، يشهدون على أتباعهم بما كان منهم في الدنيا.
وليس علم اللّه سبحانه وتعالى بهم، في حاجة إلى من يقيم الشهادة عليهم، ولكن هذه الشهادة هى خزى وفضح للمجرمين، بعرض مخازيهم على الملأ.
وقوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} هو عرض لأهل الفوز والنجاة في الآخرة.. وهم الذين أخذوا كتابهم بيمينهم.. فهؤلاء يجدون مسرّة بلقاء كتابهم، وتهشّ نفوسهم لقراءته، والاستمتاع بما يرون فيه من أعمال طيبة، تؤهلهم لرضوان اللّه، والفوز بالجنة.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [7- 9: الانشقاق] ويقول جل شأنه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ} [19: الحاقة].. إنه لسعيد بهذا الكتاب، وإن الفرحة لنملأ كيانه، فيطير بها فرحا هنا وهناك، يدعو من يلقاه ليقرأ ما في كتابه، وليشاركه هذه الفرحة، فيتضاعف فرحه، ويعظم سروره.
وفى إفراد الضمير العائد على الموصول في قوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} ثم إعادته إليه جمعا في قوله سبحانه {فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ} في هذا ما يشير إلى أن كل واحد يدعى ليأخذ كتابه بيده.. ثم إذا أخذ كلّ كتابه، اجتمع بعضهم إلى بعض، والتقى أهل اليمين بأهل اليمين، وأهل الشمال بأهل الشمال.. ومن هنا كانت قراءة أهل اليمين لكتبهم في صورة جماعية.. كل يقرأ كتابه، ويقرأ كتب أصحابه! أما أهل الشمال.. فكل منهم في شغل بما بين يديه من همّ ثقيل!! قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} هو بيان للجماعة المقابلة لأهل اليمين، الذين أخذوا كتبهم بأيمانهم، وجعلوا ينظرون فيها، ويقرءون أعمالهم الطيبة التي تبشرهم بالفوز والفلاح.
ولم تذكر الآية أصحاب الشمال ذكرا صريحا، وإنما دلّت عليهم بأوصافهم.
فهم عمى يوم القيامة، لما يغشاهم من كرب هذا اليوم، وما يطلع به عليهم كتابهم الذي يأخذونه بشمالهم، من نذر الشؤم والبلاء.. فلا ينظرون إليه، وإذا نظروا لم يبصروا شيئا.. حيث ملك الرعب وجودهم، وأخذ الفزع قلوبهم وأبصارهم! إنهم كانوا عميا في هذه الدنيا، فلم يروا آيات اللّه، ولم ينظروا فيما جاءهم به رسل اللّه من هدى ونور.. وهاهم أولاء في الآخرة على ما كانوا عليه في الدنيا، قد غرقوا في بحر متلاطم الأمواج من الكرب والبلاء، فلا يجدون طريقا للنجاة، ولا يرون وجها للفرار من هذا الهول العظيم.
قوله تعالى: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا}.
فتنه يفتنه عن الشيء فتونا: أضلّه عنه، وصرفه إلى غيره.
والافتراء: الاختلاق، وتلفيق الأخبار.
وفى هذه الآية، يردّ المكذّبون بالآخرة، إلى الدنيا مرة أخرى، بعد أن رأوها عيانا فيما يشبه أحلام اليقظة.. وما يكادون يصحون من غفوتهم تلك حتى يواجهوا بما كانوا يأخذون به النبىّ من عنت، وما يتهدّدونه من أذى.
حيث يريدونه على أن يترك آلهتهم، ولا يعرض لها في القرآن الذي يتلوه على الناس بشىء ينقص من قدرها عندهم، وينزل من منزلتها في نفوسهم.
ويقولون له فيما يقولون: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا، أَوْ بَدِّلْهُ}.
فيجيئه أمر اللّه: {قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي.. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ} [15: يونس].
ولا يجد هؤلاء الضالّون المتكبّرون مقنعا فيما يجيبهم به النبىّ على ما يسألون، ولا يرضيهم منه، أو يدفع عنه سفههم، إلّا أن يأتى بقرآن غير هذا القرآن.
وفى قوله تعالى: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ} إشارة إلى هذا الصّراع العنيف بين هؤلاء المشركين وبين النبىّ، وإلى ما يسوقون إليه من ألوان التهديد والوعيد.. حتى ليبلغ الأمر غايته من الشدّة والبلاء، وحتى ليكادا لنبىّ يصل إلى حال يوشك أن يفلت فيها الأمر من يده، إذ جاوز حدود ما تحمل الطاقة البشرية من جهد وعناء، كما يقول سبحانه وتعالى فيما يعرض للرسل من بلاء: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا} [110: يوسف].
فهذا التصوير للموقف، يكشف عن مدى ما يسوق الكافرون إلى النبىّ من أذى، وما يأخذونه به من عنت.. وأنه صلوات اللّه وسلامه عليه وهو في معرض هذه العواصف الهوجاء، يمسك نفسه على الطريق الذي أقامه اللّه تعالى عليه، ويضمّ يديه في قوة وإصرار على الرسالة التي حمّلها اللّه إياه، إلى أن يحكم اللّه بينه وبين قومه!.
وفى قوله تعالى: {وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} إشارة إلى أنه لو تحوّل النبىّ قليلا إلى ممالأة قومه، ونزل شيئا عما يدعوهمإليه، لجاءوا إليه موادعين مسالمين، ولهدأت هذه العواصف المزمجرة حوله، ولجرت سفينته في ريح رخاء!.
قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا} بيان لفضل اللّه تعالى، على النبىّ الكريم، إذ شدّ أزره، وثبّت على الحق قدمه، فلم يزلّ ولم ينحرف.
وفى قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا} إشارة إلى ما عند النبىّ صلى اللّه عليه وسلم من رصيد عظيم من العزم والصبر، وأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- مع هذا الكيد العظيم الذي يكيد له به قومه، لو ترك وشأنه لما تزحزح عن موقفه إلا شيئا قليلا.. ولكنّ أمداد السماء قد جاءته في وقتها فأمسكت به، فربطت على قلبه، وشدّت من عزمه وثبتت من قدمه.. وهكذا يصنع اللّه لأوليائه وأحبائه، فيدفع بهم إلى مواطن البلاء، حتى يبلوا بلاءهم، ويعطوا كل ما عندهم، وحتى إذا كاد يفرغ كل ما معهم، وينفد كلّ ما لديهم، جاءهم نصر اللّه، وتتابعت عليهم أمداده.
وقوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا}.
ركن إلى الشيء: مال إليه.
والنبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يركن إليهم، ولم يمل إلى ما يدعونه إليه، ولو قيد أنملة، وإن كاد يفعل ذلك، ولكن اللّه سلّم.. ونحو هذا قول الشاعر:
هممت ولم أفعل وكدت وليتنى *** تركت على عثمان تبكى حلائله
وقوله تعالى: {إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً}.
أي لو فعلت هذا- أيها النبىّ- وملت هذا الميل القليل لكان حسابك عسيرا.. فإن صغيرتك كبيرة، لمقامك الكريم الذي أنت فيه، وإنه على قدر علوّ مقامك يكون حسابك.
والمراد بضعف الحياة وضعف الممات، مضاعفة العذاب في الدنيا، ومضاعفته في الآخرة.. ومثل هذا قوله تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} [30: الأحزاب].
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً} إشارة إلى ما للّه سبحانه من سلطان في خلقه، وأنه- سبحانه- يجرى حكمه في عباده كما أراد، دون أن يكون لأحد اعتراض على حكمه، أو دفع له.
قوله تعالى: {وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا}.
استفزّه: أجفله، وأزعجه.
أي أن هؤلاء المشركين من قومك أيها النبىّ، قد أعنتوك، وأجلبوا عليك بكل ما استطاعوا من صور البغي والعدوان، حتى لأوشكوا أن يخرجوك من الأرض، أي يطردوك منها طردا، فلا يدعون لك موضعا فيها، تدعو فيه إلى اللّه، وتبلغ رسالته.. وإنهم لو فعلوا لأخذهم اللّه بالعذاب، ولما بقيت لهم في الأرض باقية بعدك.. فهذه هى سنّة اللّه في الرسل من قبلك مع أقوامهم.
وأنهم إذا تأبّوا عليهم، وأخذوهم بالبأساء والضرّاء، أخرجهم اللّه من بين أقوامهم، ثم صبّ على هؤلاء الأقوام عذابه، فأهلكهم، مصبحين، أو ممسين.
وفى هذا تهديد للمشركين، وإنذار لهم، وأنهم إن فعلوا بالنبيّ هذا الفعل أخذهم اللّه بما أخذ به الظالمين من قبلهم.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [62: الأحزاب].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7